# حينما تحتضر الطفولة..


في أول ليلة من ليالي أيلول الماطرة, اكتحلت السماء بالظلام, وامتلأت بالغيوم المتلبدة, وغشاها سواد يتفاقم منه نور البرق بين الحين والآخر.. حتى أعلن ذاك المساء عن قطرات مطر لا تكل ولا تهدا, تنهمر من السماء فتحضنها الأرض بين ساحاتها رأفة بها, وبين دوي المطر وزمجرة الرعد يرتفع صراخ حمزة بالبكاء وهو بين أحضان والده, لم تبك عيناه خوفا من المطر, ولم يضمه والده في حضنه خوفا عليه من صواعق البرق, بل هم الفراق اعترى قلب الصغير ذي العشر سنوات, لم تقوى الأحضان أن تنسيه أمه وهو يُودعها القبر, وينثر على وجهها حبات الثرى, تألم كثيرا تلك الليلة وتألم لألمه الكثيرين.. حتى السماء وكأنها بكت لبكائه, نام حمزة ليلتها ونشيج بكائه لا يفارقه, وماذا على طفل كحمزة بات يصارع الفقد أن يفعل؟!..

بدت الأيام الأولى لفقدان أمه مؤلمة جدا, كان أبوه يجلس معه ليلا تحت ضوء القمر ليسأله عن أصدقائه ومدرسته, وكلما  أمعن الطفل الصغير في ضوء القمر رأى خيال أمه فيه, فيسأل أبيه مثل كل مرة: هل ترى أمي القمر في الليل يا أبي؟ ولا يلقى من أبيه جوابا, فيسأله من جديد: متى تعود أمي يا أبي؟ انفطر حينها قلب الاب لسؤال حمزة, فأجابه: أَودع الرحمن روحها يا ولدي.. ثم احتضن ولده بحنان, كل من حول الطفل اليتيم بات يعطف عليه, والكل يحنو عليه, وكل امرأة حوله غدت أمًا له, غاب عن المدرسة أياما قليلة ثم عاودها من جديد, أبوه لم يفارقه أبدا, يعود من عمله مبكرا فيعد له الطعام, ويساعده في فروضه المدرسية, وبدأ حال حمزة في تحسن, عاد للعب مع أصدقائه, وعاود دروسه من جديد, ولكن الحال لا يدوم, والنار لا يعرف ألمها إلا من اكتوى بحرها, ظل حمزة اليتيم يصارع شوقه لأمه بنفسه, ولم تعد النساء حوله أما له مثلما كن من قبل, وأصبح والده يقضي الساعات في عمله ويعود ليلا ليجد طفله الصغير نام على معدة خاوية دون عشاء, وأهمل دروسه وواجباته ولم يعد يساعده فيها..
عصفت رياح الفقد بــحمزة من جديد, حينما عاد أبوه من عمله يحمل أخبارا جديدة, لم يسعد حمزة بهذه الأخبار مثلما أسعدت والده, خاف أن يفقد أبيه مثلما فقد أمه من قبل, فسفر أبيه للعمل يفرض عليه الغياب عنه والإقامة عند جده العجوز.. استسلم حمزة للواقع, ولم يُجد رفضه وتوسلاته لأبيه بالعدول عن  السفر, وانتقل للعيش في بيت جده العجوز الذي لم يعوضه فقد أمه أو حتى أبيه, بل زاد من مرارة الحياة في قلب الصغير, وحن قلب حمزة لوالدته التي أكملت شهرا منذ رحيلها, أشتاق لأن تتلو عليه التعويذات المسائية والصباحية, عاودته حكايات المساء في حضن أمه, وفراشه الذي تنثر عليه الياسمين قبل نومه, عاودته لمسات الصباح حين توقظه, وفطوره المحلى بحنانها, عاودته رائحة عطرها, بات يشتاق لوجودها, اشتاق ليوم كانت توقظه للمدرسة, وتزينه بأحلى الثياب, تناوله حقيبة كتبه وتمسك بيده حتى توصله لحافلة المدرسة, أشتاق لأن يتلو عليها حكايات دروسه وأصدقائه, وأن يخبرها بثناء معلماته عليه, أشتاق لأن يجري لحضنها فرحا بعلاماته الممتازة في الاختبار, اشتاق لأم كانت تقضي النهار معه في حل الواجبات والفروض وتلقنه الدروس.. بدأ يحدق في القمر ليرى خيال أمه من جديد وهي تقول له: قم يا حمزة يا ولدي.. قم مع أمك لتذاكر كل دروسك..
تعاقبت الأيام, وانقلب وجه حمزة من طفل تكسو وجهه براءة الطفولة إلى طفل يعلو محياه السهاد, ويكسو حلته الإهمال, مستواه الدراسي أخذ في الهبوط, ولم يعد يؤدي واجباته الدراسية, ويوم أن بدا وضعه ملحوظا عاتبه أستاذه الجديد أمام أصحابه, ذكره بعلاماته المتدنية في الاختبار, وقلة مشاركته في الحصة الدراسية, وكتبه غير النظيفة, وواجباته التي لم يؤديها حتى الآن.. وفي كل صباح يتكرر المشهد مع حمزة وأستاذه, الذي يبدأ في نهره وزجره, ولا يتوقف حتى يرن الجرس معلنا النهاية, وذات مرة وقبل أن يخرج من الباب صاح الأستاذ بحمزة قائلا: أخبر والدتك أن تفتش في دفترك وعلاماتك قليلا أيها الفتى الفاشل!..
لم يعلم الأستاذ الفاضل أنه ضغط على قلب الطفل الجريح, لينفجر باكيا كيوم فراق والدته, ولم يهدأ نشيجه حتى غادر المدرسة, فقادته قدماه إلى حيث ترقد أمه, وجلس إلى قبرها يبكي ويبكي وشمس الظهيرة تكوي جسده النحيل, جلس يشكي لها أبيه الذي تركه ولم يسأل عنه, حكى لها عن مرارة شوقه لها, أخبرها أنه يعيش وحيدا من دونها, أخبرها أنه عاش مرارة العيش بفقدها, وبدأ صوته يعلو بالنحيب: أمي عودي إليّ, أمي أحتاج إليك, أمي لا أحد يقف بجانبي اليوم ولا أحد يشعر بي, أمي أشتاق إليك, أشتاق لأن نذاكر معا يا أمي, أشتاق لصوتك حين تقولين: قم يا حمزة يا ولدي.. قم مع أمك لنذاكر كل دروسك.. هل تعلمين يا أمي أن أستاذي ينهرني كل يوم ويزمجر بي أمام أصحابي؟ من يقف معي يا أمي وأنت ترقدين في قبرك؟ صمت حمزة طويلا, ثم مسح دموعه المتثاقلة وحمل حقيبته الصغيرة وفتح كتابه, ثم همس نحو القبر قائلا: قومي يا أمي يا أم حمزة.. قومي لنذاكر كل دروسي..
بدأ بالورقة الأولى: أمي هذا الدرس يحكي قصة الأرنب الجائع, أنا سأقرأ القصة وأنت تستمعين... أمي أنت تسأليني وأنا أجيب..
وبدأ حمزة في طرح الأسئلة ثم يجيبها بنفسه وكأن أمه هي من تسأل, وحينما ينتهي من كل دروسه يجمع كتبه ويحمل حقيبته, ويودع أمه  ثم يقول: ألقاك غدا يا أمي..
وتتكرر الحكاية كل يوم, يخرج حمزة من المدرسة ويتجه لقبر أمه ويحكي لها عن المدرسة وأصحابه, ثم يفتح كتبه ويدرسها, يسأل وكأنه أمه, ويجيب كأنه حمزة..

مضت على حال حمزة أسابيع يحادث أمه في قبرها ثم يجيب بنفسه, ولا من أب يسأل عن حاله, أو جد يكترث لمكان وجوده.. غدا الهم باديا على ملامحه, وتفطرت عيناه من كثر البكاء, رفض ذلك اليوم أن يُودعَ أمه بنفسها, وجابه نفسه أن يضل بقربها حتى المساء, وقبل أن تميل الشمس إلى الغروب تراكمت الغيوم حول بعضها معلنة ليلة ماطرة, حتى أعلنت هطول المطر وبغزارة شديدة, كافح حمزة وجلس تحت المطر يؤنس وحدة والدته, لم يشأ أن يتركها من جديد تحت المطر بمفردها, تبللت ثيابه, وغزا المطر جسده النحيل, حتى بدأ الخوف يتسلل إليه, لم تسعفه خيالات أمه تحت ضوء القمر, ولم تُجد نفعا هلوساته مع القبر, وبدأ يبكي تحت السماء الماطرة متكئا على قبر ترقد فيه أمه, لم يلبث المطر إلا ثوان حتى هبت عاصفة ثلجية قوية, لم يدرك الصغير مصيره المحتوم, ولم يملك إلا أن ضم قدماه على صدره وحضنها بكلتا يديه, وتشبث بنفسه وكأنه يخاف أن يعود إلى الفراق من جديد, فيفارق نفسه الوحيدة, ازداد نشيج بكاؤه ثم استلقى على القبر وغرق في نوم عميق.. وحل الصباح ولم يفيق حمزة, لم يفيق بعد أن غطى جسده المنهك ركام الثلج المتساقط ليلة الأمس, مضت حياته وحيدا لم يرسم أحلامه الطفولية، شابَ قبل أوانه, لم يفارق أمه وحسب, بل فارق طفولته التي احتضرت عندما رحلت والدته لتتركه يعاني طفولته المُسنة وحيدا..

بقلم:
عويشة المعمرية...

هناك تعليق واحد:

  1. قلم مبدع
    لا أحد يتساوى مع الآخر بمرارة الشعور
    بإنتظار الجديد

    ردحذف