صندوق جدي!!
ما أن أسدل الليل ستاره حتى بدأت قطرات المطر تقرع زجاج نافذتي كسيمفونية خرساء، تنطق ألذ الصخب في أذني، وتوقظ يوما كان نائما في ذاكرتي.. لا زلت أذكر مطر تلك الليلة يوم أن بدأ جدي كطفل مجنون لم يشهد في حياته مطرا.. لم أر جدي هكذا من قبل!..
مطر.. مطر.. صرخ بها جدي بفرح، ثم هرول مسرعا نحو الخارج، ثم سقط مصطدما برأسه على الأرض بعدما تلقفته المياه المتجمعة على الدرج..
لم أحرك ساكنا بعد أن أبلغنا الطبيب بأن موت الخلايا العصبية في تقدم، وأن جدي على عتبة النسيان، مبررا أن إصابة رأسه زادت في تقدم مرض الزهايمر عنده بصورة أكبر.. أمسكت يومها جدي الصامت بيده، أحكمت قبضتي عليه بيميني، وأمسكت أبي بشمالي..
أذكر أني شاهدت أبي يمسح دمعه وهو يقود بنا عائدا إلى المنزل, مسحت دمعته فأردف: لم افكر ان أبي لن يعرفني يوما.. لن يعرف ابنه عمر.. أجبته مواسيا: أنت تعرفه يا أبي وهذا يكفي..
بدت الأيام الأولى لمرض جدي في غاية الشراسة, تألمت لأن جدي بدا صامتا أغلب نهاره, لا يتكلم إلا قليلا, وقلما يكتفي بالابتسام.. آلمني جهله باسمي, فلم أعد استمع لصوته الحنون وهو يناديني, كنت أراه ينظر إلي دون أن يتكلم, ويبتسم إلي أحيانا وكأنه يقول لي: لا زلت أتذكرك, ولكنني لا أعرف كيف أقول لك..
أبي لم يعتد على الأمر بعد, دائما ما يشرد بذهنه حين ينسى جدي اسمه ويناديه باسم أخيه الميت-بدر-.. لقد توفي عمي بدر في حادث سيارة يوم أن كنت صغيرا, أتراك لا زلت تذكره يا جدي وهو الغائب عن ناظريك أكثر من عشرين سنة, وتنسى أبي الواقف أمامك.. لا يفارقك إلا برهة من الزمن؟!..
لم ينس جدي أمه كان يطرق باب غرفتها القديم ليسألها عن أصدقائه الراحلين, ولا يلقى جوابا إلا من أبي الذي يكتفي بضمه لصدره, فيصيح به جدي أنهم كانوا هنا قبل قليل..
عاد طفلا من جديد, وربما المطر صنع منه طفلا مجنونا ولكنه سمحا..
كان يسأل عن أمه كثيرا.. دخل غرفتها يوما وخرج بصندوق خشبي صغير عليه قفلا من حديد لم أتبين شكله, بات هذا الصندوق أنيسا لجدي, ولا يبرح يداه أبد أينما كان.. أذكر أني سألت أبي عن محتواه, وتأكدت بأنه هو الآخر شغوف لمعرفة ذلك, لم أتمالك فضولي المجنون وسألت جدي عن محتواه, بالطبع لم ألق جوابا غير نظرة من عينيه كفيلة بغلق فمي..
أذكر مرة أن جدي ببراءة طفل صغير طلب أن يلعب معي, قطعا لم أرفض طلبه ذاك.. لعبت معه طويلا, ثم أدركني الملل, فجلست بقربه تاركا إياه غارقا مع ألعابه الطفولية, وغارق أنا مع أفكاري وهواجسي.. قطع جدي الصمت بما فاهت به شفتاه وهو يترنم بالبيت المشهور الذي طالما كرره مرارا وتكرارا: "ألا ليت الشباب يعود يوما"...آآ.. آآ, ويبدأ من جديد: "ألا ليت الشباب يعود يوما"... آآ .. آآ.. آآ, ويبدأ مرة أخرى: "ألا ليت الشباب يعود يوما", ويعود للتأتأة من جديد, أردفته هذه المرة مكملا عليه.. "فأخبره بما فعل المشيب", ولم ألبث أن التزمت الصمت بعد نظرة من عينيه.. لا أدري لماذا, لكنه ابتسم بعد حين, وسألني عن المفتاح.. لم أعلم أي مفتاح يقصد..
بدت حالة جدي الآن أصعب.. لم يعد يغسل أسنانه في الصباح.. زاول الحمام وصام عن الطعام, ومكث في سريره, حتى أنه لم يعد يلبي احتياجاته الشخصية.. أيقنت أن جدي يعيش ضعفا من بعد قوة ملكها, وأيقن أبي حاجة أبيه لعنايته والاهتمام به.. لم يغفل عنه للحظة أبدا, ولم ينس وقت طعامه.. يغسل أسنانه في الصباح والمساء, ويأخذه للاستحمام, ويختار له اللباس الأنيق.. جدي بات أضعف من أن يرتدي ملابسه بنفسه, كنت أساعد جدي في ارتداءه ملابسه, وكان كعادته يسألني عن المفتاح ثم يسأل والدي عنه.. عرفت من والدي أنه يقصد مفتاح الصندوق الذي بيديه, وأن أبي لا يعرف مكانه..
تساورني الشكوك عن محتوى صندوق جدي, أيعقل أنه نسى كل شيء تقريبا وتذكر هذا الصندوق المتآكل!.. قاطعني صوت أبي بهدوء: ربما يجد جدك في هذا الصندوق رائحة والدته لأنه يسأل عنها كثيرا!..
زاد صخب المطر الهاطل على زجاج النافذة.. أغلقت الستار, واقتربت من جدي المتمدد في سريره وهو يحتضن صندوقه الخشبي كطفل في مهده يحتضن لعبته الجميلة... مسحت على رأسه بكفي بهدوء... أحبك يا جدي..
فكرت أن أتناول صندوقه لأعرف محتواه فأنا لا أمّل فضولي المجنون, لكن جدي أحكم من قبضته عليه.. ارتسمت على شفتي ابتسامة حنونة وأنا أمسح على وجهه السمح, فقد تذكرت وجهه وهو يكاد يبكي ليلة أمس, حين قطب حاجبيه, واحمرت عيناه ووجنته, والتوت شفتاه في حزن, وحين اجتره والدي في السؤال عن السبب بدا غاضبا لأننا نسينا عيد ميلاده اليوم, ضحك والدي وأخبره أن اليوم هو العاشر من شباط, وعيد ميلاد جدي في العاشر من تموز, ولا زال حتى موعده أشهر قليلة!.. زاد بكاء جدي, لم أعهد قلبه ينفطر لهكذا سبب!!..
أسكت والدي قلبه الوديع واعدا إياه بحفلة في يوم الغد.. أتراه سيذكر الوعد غدا؟!..
رغم أن حالة جدي تتطور للأسوأ, وخلاياه العصبية تتلاشى أسرع للموت, ومخه بدأ يتقلص كما أسلف طبيبه الخاص في آخر زيارة له, إلا أنه لم ينس جريدته كل صباح بعد! لا أعلم حقا لذلك سببا, ولا إن كان يقرأها أم لا.. فذلك محال كمن هو في حالته, ولكني أكاد أجزم بأنها مثل صندوقه المتآكل تشعره بالأمان والاطمئنان..
أفاق جدي من نومه قبل قليل وسألني عن مفتاح الصندوق غير آبه للجواب ثم أكمل نومه, لم أشعر ببرودة جبينه وأنا أمسح عليه إلا بعد أن أسهبت طويلا في التفكير, زدت حطب الموقد ليزداد دفء غرفته ورفعت غطاءه لصدره لأقيه من برودة الجو.. ثم غفيت بجانبه, ولم يوقظني إلا أبي وهو يفتح باب الغرفة ليطمئن على والده, قبله على رأسه وأطال المكوث, ثم هرع يناديه.. أبي.. أبي.. وأمسك يديه ثم تحسس نبضه.. ولا راد لندائه!.. ما أصعب أن تنتظر الموت, وما أقسى أن تعيش على أمل أن تموت, رحمك الله يا جدي.. بكى أبي وبكيت لبكائه, مات جدي بهدوء لم ألحظه, لم أودعه, ولم يفتح صندوقه...
هيمنت يداي على الصندوق من بين يديه, وهممت لأفتحه, هالني القفل الذي لم يغلق بل وضع هكذا حتى دون مفتاح.. أمسكت يد جدي اليمنى.. انهض يا جدي فصندوقك لا يغلقه قفلا ولا يحتاج مفتاحا لفتحه.. ثم فتحت الصندوق فوجدت كيسا صغيرا جدا يحمل فتاتا لشيء غريب يشبه الأظافر المقلمة, وبجانبه صورة قديمة لطفل يشبهني تحت المطر مكتوب عليها من الخلف:
"بني.. في الكيس أظافرك التي قصصتها لأول مرة, لن تنفعك ولكنها تذكرني بمولدك ابني الحبيب..
بني.. كم أحب صورتك في المطر هذه، لكني أخاف عليك من جنونك.. وأخاف أن يسحق المطر كيانك فيهشم رأسك.. اهتم به يا بني، اهتم به جيدا" ... أمك.
10\2\2014
عويشة بنت عبدالله المعمري
مبدعه جدا اختي عويشة , كلمات جميلة واحساس اجمل واسلوب رائع جعلنا نتعطش شيئا ف شيئا حتى وصلنا الى النهاية التي هيجت مشاعرنا
ردحذفصنددوق جدي ...
ما شاء اﻟَﱠﻟَﮪْﮧ ،، تسلم الانامل يلي ابدعت.. رٌبَِـْيَِ يحفظك ابداع تبارك الرحمن
ردحذفاختيار الكلمات,ترتيب الجمل وتسلسل الأحداث شئ يفوق"الإبداع"
ردحذف"عويشه"
قلمك المبدع أطلق العنان لخيالنا بمعانقة حرف حرف ..
قلم رائع.
إلى الأمام دائما..